إذا كان منهج تاريخ الأدب قد استأثر بدراسة المتنبي وشعره، فإن الدراسات النفسية نادرة جدا، إذ لم تخصص دراسة مستقلة حول شعر المتنبي وشخصه، مثل الدراسات التي بحـثت في شخصية بشار أبي نواس وابن الرومي . فقط هناك بعض المقالات التي حاولت أن تقارب بعض المظاهر النفسية من خلال سيرة الشاعر ونصوصه. بالإضافة إلى بعض اللمحات التي تخللتها بعض الدراسات التاريخية. لذا، فإن المتن الذي سنعتمده في هذا المبحث سيكون مقسما بين مجموعة من الدارسين الذين خصصوا مقالات مستقلة ذات وجهة نفسية، من أمثال الباحث الفلسطيني يوسف سامي اليوسف، والباحث علي كمال.حتى نقف على الطريقة التي من خلالها درسا شعر أبي الطيب من وجهة نظر نفسية محاولين بذلك استخلاص النتائج الجديدة التي توصل إليها هذين الباحثين ، وهل بالفعل أضافا شيئا جديدا -للدراسات المتنبئية -أم ينتبه له السابقون قدماء ومحدثون، أم أنهما أعادا وكررا النتائج السابقة بلغة جديدة ؟ وللإجابة عن هذا السؤال لابد من اتباع مجموعة من الخطوات نحصرها فيما يلي : 1- الوقوف على الأهداف المعلنة والمضمرة لتفكيكها، حتى نقف على الدوافع التي حدت بهما إلى تبني المنهج النفسي، وكذا الوقوف على مدى الملاءمة الحاصلة بين هذه الأهداف والنتائج المتوصل إليها من خلال التحليل . 2- مساءلة المتن الشعري الذي اعتمد عليه كل دارس ليحقق فرضياته، لأن اختيار متن شعري معين ، يستبطن بداخله موقف الدارس من الشاعر ، ويعكس أيضا مواطن اهتمامه. 3- فحص اللغة الواصفة باعتبارها المفتاح الحقيقي لوصف التمثل المنهجي. 4- استخلاص النتائج الملموسة من أجل تقييم جدتها أو اجتراريتها. في بداية هذا الفصل سنقارب المقالتين اللتين خصصهما يوسف سامي اليوسف لدراسة المتنبي ، إذ سنقوم بعرض محتواهما وإعادة سبكه وترتيبه، متوسلين بذلك الإمساك بالخطوات المنهجية المتبعة في التحليل واستخلاص ما له صلة بالتحليل النفسي وما له علاقة بحقول أخرى من التحليل. ثم سنردف ذلك بدراسة علي كامل المنشورة في مجلة آفاق عربية، العدد 4، ديسمبر 1977. تحت عنوان " المتنبي والنفس " من أجل مقارنة هذه المقالات ، مبرزين نقط التقائهما واختلافهما خصوصا وأنهما اشتركا في نفس المبدء المنهجي. I- يوسف سامي اليوسف : سؤال الصمود والاستمرارية نشر يوسف اليوسف تباعا مقالتين تحت عنوان " لماذا صمد المتنبي " في مجلة المعرفة السورية عدد ( 119- 200 )، عام 1978 . يبدو من خلال هذا العنوان المتسائل أن الهاجس وراء هذه الدراسة هو الوقوف على العوامل التي جعلت شعر المتنبي يستمر عبر التاريخ ولم يلحقه البلى، وربما كان هذا الهاجس المركزي هو الذي حرك أغلب الدارسين المحدثين للمتنبي، ويبقى الاختلاف بينهم في طبيعة وجهة النظر التي يعتمدونها واختلاف طبيعة المناهج المتبعة في التحليل. لقد اختار اليوسف منهج التحليل النفسي ليجيب عن سؤال الاستمرارية، وسنحاول بدورنا في هذا المبحث أن نجلي معالم هذا المنهج من خلال الدراسة التي اقترحها علينا هذا الناقد الفلسطيني. من خلال عنوان الدراسة ينكشف الهدف المقصود، بحيث تتوجه الدراسة رأسا إلى الوقوف على الـعـوامـل النـفـسـية الـتي اكـسـبت شعـر المـتـنـبي الـبـقـاء والخلـود وسـلـكـتـه في عـقـد الشعراء الخالدين. إن سؤال المرحلة التي أنجز فيه اليوسف دراسته، اتسم بسيطرة مفهوم القومية العربية ، وطرح فيه سؤال الهوية بقوة، فقد قدمت في هذه المرحلة أجوبة حول مآل هذه الهوية التي أصبحت منخورة بالآخر وهذه القومية المحاصرة بالتنابذ الإيديولوجي للأقطار العربية. إن اختيار شاعر كالمتنبي لذو دلالة بالغة فهو شاعر شاهد تمزق الأمة العربية وعاش لحظات احتضارها. إن التماس جواب لسؤال استمرارية المتنبي سيتم البحث عنه في الحاضر ليس في الماضي ، فكل قراءة للماضي مشروطة بأسئلة الحاضر. إنه في فلك هذا السؤال الكبير والإشكالي تحركت أغلب الدراسات المتنبئية، فإذا كان هدف الدراسات التي تبنت منهج تاريخ الأدب ، تهدف إلى توثيق وتحقيق هذه الهوية ، وقد تمثل ذلك في التركيز عن نسب الشاعر ، والمحيط الاجتماعي والسياسي والعقائدي والفكري الذي تبلور فيه المتنبي وشعره، والتركيز على توثيق النص، فإن المنهج النفسي سينصب على تشريح هذه الهوية ومساءلة الذات الشاعرة والكشف عن آليات اشتغالها. لقد قسم اليوسف دراسته إلى قسمين : 1) القسم الأول : شخصية المتنبي ومنطوياتها النفسية لقد صرح اليوسف في بداية هذا القسم ، أن الاهتمام بشعر المتنبي قديما وحديثا ليس محض صدفة، " إذ لابد من وجود عناصر نفسانية وفنية في شعره تشد إليه هذا العدد الهائل من القراء، ناهيك بالقيم التي يجسدها والتي تشكل بالنسبة للعربي مثلا أعلى، وفي ظني إن اتخاذ أبي الطيب لمقولة القوة أو الرجولة أطروحة أساسية يتمحور حولها معظم إنتاجه الشعري ثم تنوع موضوعات شعره وتذوب اللون الوجداني فيها، هما العاملان المركزيان اللذان اجتذبا إليه هذا العدد الهائل من القراء عبر القرون العشرة الأخيرة ". من خلال هذه العتبة الأولى يمكننا أن نستخلص معالم المنهج الذي ارتضاه الناقد، فهو منهج يشتمل على عدة مستويات، منها ما هو نفسي ، ومنها ما هو بنيوي تكويني ، ومنها ما هو موضوعاتي. وسنركز في البداية على إبراز هذه المستويات المنهجية المتداخلة، عبر الوقوف على اللغة الواصفة Métalangage المتوسل بها في الدراسة، إذ لا يمكن الحديث عن الممارسة النقدية سواء كانت نظرية أو تطبيقية ما لم تتوفر على لغة واصفة، وما لم تحدد موضوعها وخلفياتها النظرية. أ- المنهج الفلسفي النفساني : أعلن اليوسف في بداية مقالته عن طبيعة المنهج الذي تبناه وسماه بالمنهج الفلسفي النفساني واعتبره أفضل منهج لدراسة المتنبي/ الظاهرة، وهذا المنهج كما هو مذكور منهج تركيبي، " يرى الذات في تجادلها مع عصرها وفي امتلائها بمحتويات زمانها وثقافته وما تحدر إليه من تراث عن الماضي ". نسجل من خلال هذا التعريف، أن هذا المنهج يركز بالأساس على الذات، غير أن هذه الذات ليست فارغة، بل تعيش جدلا مع عصرها. وأن هذه الذات تعيش زمنين : الزمن الأصغر والزمن الأكبر. إذن، فالذات في هذا التصور هي نتاج جدل مع الواقع ونتاج لثقافة الماضي. بمعنى أن الشاعر - المتنبي - سيبحث عنه في شخصه الواقعي وفي شخصه الأدبي، في تجربة المعيش وفي التجربة النصية. والمقصود بالتجربتين أن المتنبي يرضخ لواقعه المحدد زمنيا بالقرن الرابع الهجري، ويرضخ لتجربة النصوص التي انحدرت إليه من ماضي الثقافة العربية. بمعنى أن البحث سينصب على البعد التناصي في الاستراتيجية الشعرية عند المتنبي، فهل استطاع اليوسف أن يقبض عن هاذين البعدين في دراسته ؟ إن الجواب عن هذا السؤال رهين باستنطاق الأواليات التفسيرية والتأويلة المنجزة في الدراسة. سيحاول اليوسف استجابة للتعريف المنهجي السابق رصد طبيعة المرحلة التي نبت فيها المتنبي متوخيا من وراء ذلك استخلاص السمات الرئيسية للمرحلة يقول : " ولعل أول سمة تاريخية من سمات القرن الرابع الهجري هي أنه مرحلة الاتضاع السياسي وتفسخ الإمبراطورية العربية المؤذن بنزوعها نحو الموت، ولكنه في الوقت عينه قرن بلغت فيه التناقضات الاجتماعية أشدها وهذه هي سمته الثانية، فقد شهد القرن الرابع قيام حركات تاريخية تبتغي إعادة بناء الإمبراطورية على أسس أشد متانة وأكثر عدالة، وهذا يعني أن القرن الرابع قرن تضاد وتقابل جادين، ولسوف نلاحظ أن شخصية المتنبي تكونها مجموعة من التقابلات المتعارضة الصارخة، تماما كما لو أنه تعين فردي لعصره " . نلاحظ في هذا الرصد للواقع العربي في القرن الرابع نقطتين أساسيتين هما : 1) التركيز على ظاهرة التضاد والتناقض في المجتمع، (فهو عصر الضعة وعصر الثورات الاجتماعية). 2) أن الذي يمثل شخصية المتنبي وشعره عكسا هذا التناقض بشكل صارخ، وبموجبه فالمتنبي هو ذاك المبدع الفرد الذي استطاع أن يعكس رؤية العالم لعصر بأكمله ، تمثل رؤية العالم . إذن، فالتصور المبدئي المتحكم في دراسة اليوسف يمكن رده إلى بعض مظاهر البنيوية التكوينية عند جولدمان في تحديده لمفهوم رؤية العالم، وبالرغم من أن اليوسف لم يشر إلى مرجعياته، فإن تحليله يشي بها. إن هذا المنهج عرفته الدراسة الأدبية العربية في فترة السبعينيات، ولهذا فإننا نجد باحثا آخر مجايلا لليوسف حاول هو الآخر أن يلتمس تفسيرا لبعض مظاهر شعرية المتنبي متوسلا التصور البنيوي التكويني، فالباحث عبد السلام نور الدين في مقالة له بعنوان " المتنبي وسقوط الحضارة العربية ، يبرز أن الحضارة الإسلامية في القرن الرابع وقفت في مفترق الطرق، تحمل كل القدرات على النهوض والإقلاع، وبما أن هذا النهوض كان ممكنا فقد كان الفرد العربي طموحا ومتطلعا للأعلى، إلا أن هذا الإقلاع تحول إلى سقوط مريع، تسبب في زلزلة البنية الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والروحية. ولقد التقط المتنبي هذا الانحدار الحضاري وهذه الهوة المتفاقمة في مجموعة من أبياته الشعرية يقول : ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت
على عينه حتى يرى صدقها كذبا (الطويل)
أرى كلنا يـبـغـي الحياة لنـفـسـه
حـريصا عليها مستهاما بـها صبـا
فحب الحيان النفس أورده الـتـقا
وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ويختلف الرزقان والفـعـل واحـد
إلى أن تـرى إحسان هـذا لذا ذنبا
ويقول في مكان آخر : أتى الزمان بنوه في شبيبته
فـسرهم وآتيناه على الهرم (البسيط)
يعلق عبد السلام نور الدين على هذه الأبيات التي تتضمن إحساسا قويا بالزمن وتقلباته، المفضية إلى انهيار صرح الحضارة بقوله " إن العناصر الذاتية في شخصية المتنبي أخذت لحمتها من نسيج البنية الموضوعية لعصره-العصر الذي كان مقدرا له أن يقلع فسقط فانتقل الشرخ الحضاري إلى روح المتنبي. إن الإحساس المريع بسقوط زمانه يلون كل شعره... إن الشرخ الذي أصاب الحضارة العربية فجأة قد عبر عنه المتنبي بنبرة قاسية- إن ولع المتنبي بتصوير المظاهر المتغيرة التي يتخذها الزمان والدهر والدنيا جعلته يطارد المفارقات في تقلباتها المتعددة " . لقد استنبطن المتنبي عصرا بكامله وبكل تناقضاته، وعبر عن إحساسه الدقيق بالزمن واتجاهاته مما اكسب شعره قيمة تاريخية وجمالية توالت عبر العصور. وأمام قانون الانهيار الذي عاشه عصر للمتنبي أصبح قدره " أن يتمرغ في العذاب الميتافيزيقي - يجاهد الزمان وهو يعلم أنه المهزوم ويبارز المحال - حتى تولدت لديه حاسة ميتافيزيقية هي الهروب من السكون والدعة إلى حيث الصراع والقتال ". إن رؤية العالم التي عبر عنها المتنبي هي رؤية السقوط والانهيار، وليست هذه الرؤية للعالم فردية بل هي تعبر عن رؤية العالم لمجتمع بأكمله. وإلى جانب هذا الملمح البنيوي التكويني عند كل من عبد السلام نور الدين ويوسف اليوسف، يحاول هذا الأخير أن يقبض على النواة المحركة لشعر المتنبي، انطلاقا من اصطلاحين أساسيين في التحليل النفسي هما النرجسية والسادية ، ويرى بأن هذين المصطلحين النفسيين هما المعين الذي يروي شعر المتنبي.